أدلة القائلين بأن المحو والإثبات هو في الأقدار
هذا القول الأول وهو: أن المحو والإثبات واقع في الأقدار، هو الذي ورد عن كثير من السلف الصالح، وأورد ابن جرير رحمه الله ذلك بالسند إلى أئمة التفسير من الصحابة والتابعين كـابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم أجمعين، واستدل على ذلك أيضاً بما ورد من آثار عن بعض السلف تؤيد هذا المعنى، أن الله سبحانه وتعالى يمحو ما يشاء ويثبت من الأقدار، حتى في الشقاء والسعادة.
ومن ذلك ما روي من دعاء بعض السلف: اللهم إن كنت كتبتني في ديوان الأشقياء فامحني، واكتبني في ديوان السعداء] وقد ورد هذا الدعاء عن شقيق بن سلمة أبي وائل التابعي المشهور، وعن عبد الله بن مسعود شيخ شقيق، وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.. فدعاء هؤلاء السلف يتضمن أنهم يعلمون ويقرون بأن الله سبحانه وتعالى قد كتب الشقاوة والسعادة، ولكنه يمحو منها ما يشاء ويثبت ما يشاء، ونقل أن مجاهداً رحمه الله سأله رجل عن هذا الدعاء فأقره، وقرأ عليه هذه الآية، وهؤلاء جمع من السلف رأيهم في تفسير هذه الآية: أن المحو والإثبات في الأقدار، وعلى هذا المعنى يكون معنى قوله تعالى: ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) وعنده اللوح المحفوظ.
وأيد الحافظ ابن كثير هذا القول بخلاف ابن جرير رحمه الله؛ لأن هذا القول يؤيده ما رواه الحاكم في مستدركه من حديث ثوبان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه} ورواية الإمام أحمد : {ولا يرد القدر إلا الدعاء} وأيده بما في الصحيح: {من أراد أن ينسأ له في أجله، وأن يبسط له في رزقه، فليصل رحمه} إذاً: صلة الرحم تزيد في العمر، والدعاء يرد القضاء. وأيده أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: {إن الدعاء والقضاء ليعتلجان ما بين السماء والأرض} .
استدل الحافظ ابن كثير رحمه الله بهذه الأدلة على تأييد هذا القول، ويمكن أن نضيف نحن دليلاً آخر وهو تابع لذلك، وذلك أننا قررنا أن المحو والإثبات في الأقدار، فما هو أم الكتاب؟
والجواب: هو اللوح المحفوظ. وهل جاء في القرآن ما يدل على أن اللوح المحفوظ هو أم الكتاب؟
الجواب: نعم. قال الله تعالى: ((وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ))[الزخرف:4]، وفي سورة البروج قال تعالى: ((بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ))[البروج:21-22] إذاً: اللوح المحفوظ هو أم الكتاب، واللوح المحفوظ له أسماء، منها: أم الكتاب، ومنها: الإمام المبين، ومنها: الذكر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وكتب في الذكر كل شيء } وكما قال تعالى: ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ))[الأنبياء:105] أي: في اللوح المحفوظ على أرجح الأقوال.
وعلى هذا النسق نفهم قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))[الرعد:38] ثم قال: ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ))[الرعد:38] فالله سبحانه وتعالى قد قدر آجال الخلق وآجال إرسال الرسل وآجال إنزال البينات والآيات عليهم، ومع أنه سبحانه وتعالى قد قدر كل شيء وضرب له أجلاً لا ريب فيه، لا يستقدم عنه ولا يستأخر؛ إلا أنه سبحانه وتعالى يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وعنده اللوح المحفوظ الذي لا تبديل ولا تغيير لما كتب فيه من الأقدار، ويؤيد ذلك أن بعض السلف نصوا على أن ما يقدره الله سبحانه وتعالى في رمضان قد يغير، ولكن ما في اللوح المحفوظ لا يغير، وفي رمضان تكون الكتابة السنوية في ليلة القدر التي يكتب الله سبحانه وتعالى فيها ما يكون إلى مثلها من السنة القادمة، وأيضاً يغير ما يكتبه الملك عند نفخ الروح فيه؛ حين يأمره الله تعالى أن يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فيغير ذلك، ولكن لا يغير ما في اللوح المحفوظ، هذا هو القول الأرجح.